فصل: تفسير الآيات رقم (17- 19)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏24‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ من غاية غيهم وضلالهم‏:‏ ‏{‏ما هيَ‏}‏ أي‏:‏ ما الحياة؛ لأنهم وُعِدُوا حياة ثانية، ‏{‏إِلا حياتُنا الدنيا‏}‏ التي نحن فيها، ‏{‏نموت ونحيا‏}‏ أي‏:‏ يُصيبنا الموت والحياة فيها، وليس وراء ذلك حياة، أو‏:‏ نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا، أو‏:‏ يموت بعض ويحيا بعض، أو‏:‏ نكون مواتاً نطفاً في الأصلاب، ونحيا بعد ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ هذا كلام مَن يقول بالتناسخ، فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان، أي‏:‏ يموت الرجل، ثم تجعل روحه في شبح آخر، فيحيا به، وهو باطل عند أهل الإسلام، ثم قالوا‏:‏ ‏{‏وما يُهكنا إِلا الدهرُ‏}‏ إلا مرور الزمان وهو في الأصل‏:‏ مدة بقاء العالم، من‏:‏ دهَرهُ‏:‏ إذا غَلَبه، وكانوا يزعمون أن مرور الزمان بالليالي والأيام هو المؤثِّر في هلاك الأنفس، وينكرون ملك الموت، وقبضه الأرواحَ بأمر الله تعالى، وكانوا يُضيفون كلَّ حادثة تحدثُ إلى الدهر والزمان، كما قال شاعرهم‏:‏

أَشَابَ الصغيرَ وأفنى الكبيرَ *** كَرُّ الغداة ومرُّ العشيِّ

ومنه قول تُبع الأكبر، أو غيره‏:‏

منع البقاءَ تَغرُّبُ الشمس *** وطلوعها من حيث لا تمسي

وطلوعُها بيضاءَ صافيةً *** وغروبُها صفراءَ كالورْسِ

تجري على كبِد السماء كما *** يجري حِمام الموت بالنفْسِ

اليومَ أعلم ما يجيء به *** ومضى بفصل قضائه أمسِ

فإن كان تُبَّعاً المتقدم؛ فنسبة الفعل إلى الدهر مجاز، كما سيأتي، وعقيدة الموحدين ألاَّ فاعل إلا الله، فالدهر مُسخّر بأمر الله وقدرته، بل هو من أسرار الله وأنوار صفاته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تسبُّوا الدهر، فإن الله هو الدهر» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قال الله تعال‏:‏ يُؤذيني ابنُ آدم، يَسُبُّ الدَّهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أُقلّب الليلَ والنهارَ» فالأمور كلها بيد الله، والدهر إنما هو مظهر لعجائب القدرةن كما قال أبو علي الثقفي رضي الله عنه‏:‏

يا عاتبَ الدهر إذا نابَه *** لا تَلُمِ الدهرَ على غَدْرِهِ

الدهرُ مأمورٌ له آمر *** قد انتهى الدهر إلى أمره

كم كافر أمواله جَمَّةٌ *** تزداد أضعافاً على كفرِهِ‏؟‏

ومؤمنٍ ليس له دِرهمٌ *** يزداد إيماناً على فقرهِ‏؟‏

وقد ينسب أهل التوحيد الفعلَ إلى الدهر مجازاً، تغزُّلاً، في أشعارهم، كما قال عبد الملك بن مروان، حين ضعف حالُه‏:‏

فاستأثر الدهر الغداة بهم *** والدهر يرميني وما أَرْمي

يا دهر قد أكثرت فَجعتنا *** بِسَراتنا وقرت في العَظْمِ

وتركتنا لحماً على وَضَمٍ *** لو كنت تستبقي من اللحم‏!‏‏!‏

وسلبتنا ما لستَ تُعقبنا *** يا دهرُ ما أنصفتَ في الحُكمِ‏!‏‏!‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما لهم بذلك من علم‏}‏ أي‏:‏ ليس لهم بما ذكر من اقتصار الحياة على ما في الدنيا، وإسناد التأثير إلى الدهر، ‏{‏من علم‏}‏ يستند إلى عقل ولا نقل، ‏{‏إِن هم إِلا يظنون‏}‏ ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد، هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم‏.‏

‏{‏وإِذا تُتلى عليهم آياتنا‏}‏ الناطقة بالحق، الذي من جملته البعث، ‏{‏بيناتٍ‏}‏ واضحات الدلالة على ما نطقت به، أو مبينات له، ‏{‏ما كان حُجَّتَهم‏}‏ ما كان متمسكاً لهم شيء من الأشياء، ‏{‏إِلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إِن كنتم صادقين‏}‏ في أنَّا نُبعث بعد الموت أي‏:‏ لا شبهة لهم إلا هذا القول الباطل، الذي يستحيل أن يكون من قبيل الحُجة، أي‏:‏ ليس لهم حُجة إلا العناد والاستبعاد‏.‏ وتسميته حُجة إما لسوقهم إياه مساق الحُجة في زعمهم، أو تهكماً بهم، كقول القائل‏:‏ «تحية بينهم ضرب وجيع»‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى عليهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أي‏:‏ إنهم مع كونهم ظانين فَهُم بحيث لو استدل لهم لما ازدادوا إلا ضلالاً، وقد تقرّر في علم الجدل أن المصمم على الشيء يصعب نقله عنه، بخلاف الظان والشك، فأتت هذه الآية نفياً لما يتوهم في هؤلاء أنهم حيث لا يقين عندهم يسهل رجوعهم، حين تظهر الحجة‏.‏ ه‏.‏ ومَن نَصَبَ «حجتهم» فخبر كان، ومَن رفعه فاسمها‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ ‏{‏وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، اغترُّوا بما وجدوا عليه خَلَفَهم، وأَرْخوا في البهيمية عَنَانهم وعُمْرَهم، وأغفوا عن ذكر الفكرة قلوبَهم، فلا بالعلم استبصروا، ولا من الحقائق استمدوا، رأسُ مالهم الظن، وهم غافلون، وإذا تتلى عليهم الآيات طلبوا إحياء موتاهم، وسوف يرون ما استبعدوا‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 32‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏27‏)‏ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏30‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ويوم‏}‏‏:‏ منصوب بيَخْسَر، و«يومئذٍ» بدل منه، و«كل أُمةٍ تُدْعَى»‏:‏ مبتدأ وخبر، ومن نصب فبدل من «كل أمة»، ‏{‏والساعة لا ريب فيها‏}‏؛ مَن رفعها فمبتدأ، ومَن نصبها فعطف على ‏{‏وعد الله‏}‏‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل الله يُحييكم‏}‏ في الدنيا ‏{‏ثم يُميتكم‏}‏ عند انقضاء أعماركم، لا كما تزعمون من أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر، ‏{‏ثم يجمعكم‏}‏ بعد الموت ‏{‏إِلى يوم القيامة‏}‏ للجزاء، ‏{‏لا ريبَ فيه‏}‏ أي‏:‏ في جمعكم؛ فإنّ مَن قدر على البدء قدر على الإعادة، والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة، وتأخيره ليوم معلوم، والردّ لآبائهم كما اقترحوا، حيث كان مزاحماً للحكمة التشريعية، امتنع إيقاعه لرفع الإيمان بالغيب حينئذ، ‏{‏ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون‏}‏ قدرة الله على البعث، وحكمة إمهاله، لإعراضهم عن التفكُّر بالانهماك في الغفلة، وهو استدراك من قوله‏:‏ ‏{‏لا ريب‏}‏ إما من تمام الكلام المأمور به، أو مستأنف من جهته تعالى، تحقيقاً للحق، وتنبيهاً على أن ارتيابهم إنما هو لجهلهم وتقصيرهم في التفكُّر والنظر، لا لأن فيه شائبة ريبٍ ما‏.‏

‏{‏ولله ملكُ السماوات والأرض‏}‏ أي‏:‏ له التصرُّف فيما وفيما بينهما، وهو بيان لاختصاص الملك المطلق بالله، إثر بيان تصرفه تعالى في الناس بالإحياء والإماتة، والبعث والجمع والجزاء، وكأنه دليل لِما قبله، ‏{‏ويوم تقوم الساعةُ يومئذ يَخْسَرُ المبطلون‏}‏ الداخلون في الباطل، وهو الكفر، ‏{‏وترى كُلَّ أمةٍ‏}‏ من الأمم المجموعة ‏{‏جاثيةً‏}‏ باركة على الركب، مستوفزة من هول ذلك اليوم، يقال‏:‏ جثا فلان يجثو‏:‏ إذا جلس على ركبتيه، قال سلمان رضي الله عنه‏:‏ في القيامة ساعة هي عشر سنين، يخرّ الناسُ فيها جثاةً على ركبهم، حتى إن إبراهيم ينادي‏:‏ نفسي نفسي‏.‏ ه‏.‏ ورُوي‏:‏ أن جهنم حين يؤمر بها أن تُساق إلى الموقف، تنفلت من أيدي الزبانية، حتى تهم أن تأتي على أهل الموقف جميعاً، وتزفر زفرة تذهب بحاسة الآذان، فيجثو الكل على الركب، حتى المرسلين، وكل واحد يقول‏:‏ نفسي نفسي، لا أسألك اليوم غيرها، ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول‏:‏ «أمتي أمتي» نقله الغزالي، وعن ابن عباس‏:‏ جاثية، مجتمعة، وقيل‏:‏ جماعات، من‏:‏ الجثوة، وهي الجماعة‏.‏

‏{‏كُلُّ أمةٍ تُدْعَى إِلى كتابها‏}‏ صحيفة أعمالها، والمراد الجنس، أي‏:‏ صحائف أعمالها، ‏{‏اليوم تُجْزَون ما كنتم تعملون‏}‏ في الدنيا، ثم يُقال لهم‏:‏ ‏{‏هذا كِتَابُنا‏}‏ أضيف الكتاب إليهم أولاً؛ لملابسته إياهم، لأن أعمالهم مثبتة فيه، وإلى الله ثانياً؛ لأنه مالكه، والآمِرُ للملائكة بكَتْبِه، وأضيف لنون العظمة تفخيماً لشأنه، وتهويلاً لأمره، ‏{‏ينطق عليكم بالحق‏}‏ يشهد عليكم ملتبساً بالحق، من غير زيادة ولا نقصان، ‏{‏إِنا كنا نَسْتنسخ‏}‏ أي‏:‏ نستكتب ونطلب نسخ ‏{‏ما كنتم تعملون‏}‏ في الدنيا، من الأعمال، حسنة أو سيئة، وقال ابن عزيز‏:‏ نستنسخ‏:‏ نثبت، ويقال‏:‏ نستنسخ‏:‏ نأخذ نسخته، وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان، صغيره وكبيره، فيثبت الله منه ما كان له ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو، وروي عن ابن عباس وغيره حديثاً‏:‏

«أن الله يأمر بعرض أعمال العباد كل يوم خميس، فينقل من الصحف التي ترفع الحفظة، كل ما هو مُعَدّ أن يكون له ثواب وعقاب، ويلقى الباقي»، فهذا هو النسخ من أصل‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بكتابنا‏:‏ اللوح المحفوظ‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أول ما خلق الله القلم من نور مسيرة خمسمائة عام، واللوح من نور مسيرة خمسمائة عام، فقال للقلم‏:‏ اجر‏:‏ فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل، برها وفاجرها، ورطبها ويابسها» ثم قرأ‏:‏ ‏{‏هذا كتابنا ينطق‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فيُروى «أن الملائكة تصعد كل يوم إلى الملك الموكل باللوح، فيقولون‏:‏ أعطنا ما يعمل صاحبنا اليوم، فينسخُ من اللوح عمله ذلك اليوم، ويعطيه إياهم، فإذا انقضى أجله، قال لهم‏:‏ لا نجد لصاحبكم عملاً بقي له، فيعلمون أنه انقضى أجله»‏.‏

ثم فصّل أحوال أهل الموقف، فقال‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيُدخلهم ربُّهم في رحمته‏}‏، أي‏:‏ جنته ‏{‏ذلك هو الفوزُ المبين‏}‏ الظاهر، الذي لا فوز وراءه، ‏{‏وأما الذين كفروا‏}‏ فيُقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ‏:‏ ‏{‏أفلم تكن آياتي تُتلى عليكم‏}‏ أي‏:‏ ألم تكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم، فحذف المعطوف عليه، ثقةً، بقرينة الكلام، ‏{‏فاستكبرتم‏}‏ عن الإيمان بها، ‏{‏وكنتم قوماً مجرمين‏}‏ أي‏:‏ قوماً عادتكم الإجرام‏.‏

‏{‏وإِذا قيل إِنَّ وعد الله‏}‏ أي‏:‏ وكنتم إذا قيل لكم‏:‏ إن وعد الله بالجزاء ‏{‏حقٌّ والساعةُ لا ريبَ فيها‏}‏ أي‏:‏ في وقوعها ‏{‏قلتم ما ندري ما الساعةُ‏}‏ أيّ شيء هي الساعة، استهزاء بها، ‏{‏إِن نظنُّ إِلا ظناً‏}‏ أصله‏:‏ نظن ظناً، ومعناه‏:‏ إثبات الظن، فحسب، فأدخل حرف النفي والاستثناء ليفيد إثبات الظن مع نفس ما سواه‏.‏ وقال المبرد‏:‏ أصله‏:‏ إن نحن إلا نَظُن ظناً، وإنما أوَّله؛ لأنه لا يصح التفريع في المصدر المؤكد، لعدم حصول الفائدة، إذ لا معنى لقولك‏:‏ لا نضرب إلا ضرباً، وجوابه‏:‏ إن المصدر نوعي لا مؤكد، أي‏:‏ ظناً حقيراً ضعيفاً‏.‏ وفي الآية اللف والنشر المعكوس‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏قلتم ما ندري ما الساعة‏}‏ راجع لقوله‏:‏ ‏{‏والساعة لا ريب فيها‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن نظن إلا ظناً‏}‏ راجع لقوله‏:‏ ‏{‏إن وعد الله حق‏}‏، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏وما نحن بمستيقنين‏}‏ أي‏:‏ لا يقين عندنا، وهو راجع لقوله ‏{‏إن وعد الله حق‏}‏‏.‏ قاله ابن عرفة‏.‏ ولعل هؤلاء غير القائلين‏:‏ ‏{‏ما هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ والله أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قل الله يُحييكم الحياةَ الفانية، ثم يُميتكم عن حظوظكم، وعن شهود وجودكم، ثم يجمعكم به إلى يوم القيامة، لا يعزلكم عن رؤيته أبداً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن هذا يقع في الدنيا، مع أن المُلك لله يتصرف فيه كيف شاء، يُوصِّل مَن أراد، ويُبعد مَن شاء‏.‏

ويوم تقوم الساعة يخسر الباطلون والمبطلون، ويفوز المجتهدون والواصلون‏.‏ وترى كُلَّ أمة جاثية من هيبة المتجلِّي باسمه القهّار، وهذذ القهرية- نعم- لا ينجو منها خاص ولا عام؛ لأن الطبع البشري يثبت عند صدمات الجلال‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل أمة تُدعى إلى كتابها‏}‏ هو أيضاً عام، فيستبشر المجتهدون، ويحزن الباطلون، ولا يظلم ربك أحداً، فاليوم يوم عمل، وغداً يوم جزاء، فأهل الإيقان يفوزون بغاية النعيم والرضوان، وأهل الشك يخلدون في الخسران، فيظهر لهم ما لم يكونوا يحتسبون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 37‏]‏

‏{‏وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏33‏)‏ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏34‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏35‏)‏ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وبدا لهم‏}‏ أي‏:‏ ظهر لهؤلاء الكفرة ‏{‏سيئاتُ ما عملوا‏}‏ قبائح أعمالهم على ما هي عليه من الصورة المنكرة الهائلة، وعاينوا وخامة عاقبتها، أو‏:‏ جزاؤها، فإن جزاء السيئة سيئة مثلها، ‏{‏وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏ أي‏:‏ نزل بهم جزاء استهزائهم من العقاب العظيم، ‏{‏وقيل اليومَ ننساكم‏}‏ نترككم ترك المنسي، ‏{‏كما نسيتم‏}‏ في الدنيا ‏{‏لقاءَ يومكم هذا‏}‏ أي‏:‏ كما تركتم الاستعداد له، ولم تبالوا به‏.‏ وإضافة اللقاء إلي اليوم إضافة المصدر إلى ظرفه، أي‏:‏ لقاء الله في يومكم هذا، أو لقاء جزائه، ‏{‏ومأواكم النارُ‏}‏ أي‏:‏ منزلكم، ‏{‏وما لكم من ناصرين‏}‏ لا أحد يمنعكم أو يخلصكم منها‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ العذاب ‏{‏بأنكم‏}‏ بسبب أنكم ‏{‏اتخذتم آياتِ الله‏}‏ المنزَّلة ‏{‏هُزواً‏}‏ مهزوّاً بها، ولم ترفعوا لها رأساً، ‏{‏وغرتكم الحياةُ الدنيا‏}‏ وأَلْهتكم زخارفُ الدنيا، فحسبتم ألاّ حياة بعدها، ‏{‏فاليومَ لا يُخرجون منها‏}‏ أي‏:‏ من النار، والالتفات إلى الغيبة للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب، استهانة بهم‏.‏ وقرأ الأَخوان بالخطاب‏.‏ ‏{‏ولا هم يُستعتبون‏}‏ أي‏:‏ لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم، أي‏:‏ يرضوه بعمل صالح؛ لفوات إبانه، وإن طلبوا الرجوع لم يقبل منهم‏.‏

‏{‏فللّه الحمدُ‏}‏ خاصة، ‏{‏ربّ السماوات وَربّ الأرض ربّ العالمين‏}‏ فلا يستحق الحمد أحد سواه، أي‏:‏ فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء، فإن مثل هذه الربوبية العامة، توجب الحمد والثناء على كل مربوب، وتكرير الرب للتأكيد والإيذان بأن ربوبيته تعالى لكل منهما بطريق الأصالة‏.‏ ‏{‏وله الكبرياءُ في السماوات والأرض‏}‏ أي‏:‏ وكبّروه، فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته في السموات والأرض، وإظهارهما في موضع الإضمار لتخفيم شأن الكبرياء، ‏{‏وهو العزيزُ‏}‏ الذي لا يُغلَب، ‏{‏الحكيم‏}‏ في كل ما قضى وقدّر، فاحمدوه وكبّروه، وأطيعوه، فصاحب هذه الصفات العظام مستحق لذلك‏.‏

الإشارة‏:‏ وقيل اليوم ننساكم من شهود قُربى، كما نسيتم لقاء يومكم هذا، فلو ذكرتموني على الدوام لقربتكم على الدوام، ولو ذكرتموني على الانفراد لأشهدتكم ذاتي على التماد، ولكنكم اتخذتم آيات الله الدالة على وجودي من الكائنات، والدالة على شهودي من الأولياء، هزواً، وغرتكم الحياة الدنيا، فاليوم لا يخرجون من غم الحجاب، ولا يُمنعون من انسداله، ولا هم يرضون ربهم، فيرضى عنهم، فللّه الحمد على غناه عن الكل، وله الكبرياء في السموات والأرض، أي‏:‏ رداء الكبرياء منشور على أسرار ذاته في السموات والأرض، وهو ما ظهر من حسها، كما هو منشور على وجهه في جنة عدن، كما في الحديث‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ نفى الحق الكبرياء عن الحدثان؛ لأنه هو المستحق للكبرياء، وكبرياؤه ظاهر في كل ذرة، من العرش إلى الثرى، إذ هي كلها مستغرقة مقهورة في أنوار كبريائه، يعز بعزه الأولياء، ويقهر بقهره الأعداء، حكيم في إبداع الخلق وإلزامهم عبوديته، التي هي شرائعه المحكمة بحكمه، وقال سهل رضي الله عنه‏:‏ وله الكبرياء‏:‏ العلو والقدرة والعظمة، والحول والقوة في جميع الملك، فمَن اعتصم به أيّده بحَوْلِه وقوته، ومَن اعتمد على نفسه وكله الله إليها‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة الأحقاف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ يا محمد، أو‏:‏ الوحي إلى محمد، ‏{‏تنزيلُ الكتاب من الله‏}‏ أي‏:‏ هذا تنزيل القرآن، وهو من الله ‏{‏العزيزِ الحكيم‏}‏ فمَن حفظه، وعرف ما فيه، وعمل بمضمنه كان عزيزراً على الله، حكيماً فيما يبدئ ويعيد‏.‏ ‏{‏ما خلقنا السماواتِ والأرض وما بينهما‏}‏ من المخلوقات ‏{‏إِلا بالحق‏}‏ أي‏:‏ إلا ملتبساً بالحق الذي تقتضيه الحكمة التكوينية والتشريعية، فالاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل، أو من أعم الأحوال، أي‏:‏ ما خلقناهما في حال من الأحوال إلا حال ملابستنا بالحق، وفيه من الدلالة على وجود الصانع، وصفات كماله، وابتناء أفعاله على حكمة بالغة، ما لا يخفى، ‏{‏وأجل مُسمىً‏}‏ تنتهي إليه، وهو يوم القيامة، يوم تُبدل الأرض غير الأرض والسموات، ‏{‏والذين كفروا عما أُنذروا‏}‏ به من هول ذلك اليوم، الذي لا بُد لكل مخلوق من الانتهاء إليه، ‏{‏مُعرِضُون‏}‏ لا يؤمنون به، ولا يهتمُّون بالاستعداد له، ويجوز أن تكون «ما» مصدرية، أي‏:‏ عن إنذارهم ذلك اليوم معرضون‏.‏

وحاصل افتتاح السورة‏:‏ أنّ الوحي الخاص إلى محمد هو منزل من الله العزيز، الذي عَزَّ عن الافتراء عليه، وأعزَّ بالوحي مَن تمسّك به، الحكيم في تنزيله وحيه، مرشداً لعباده لِمَا فيه صلاحهم وهداهم، ومن حكمته‏:‏ أنّ خلق السموات والأرض دالاًّ بذلك على توحيده، وكماله في أوصافه وتدابيره، المقتضية لترتُّب دار الجزاء على دار العمل، بحيث لا يُسَوِّي بين مبطل ومحق، فأرشد بخلق الأشياء إلى حكمته دلالة، ثم بإنزال الوحي بذلك قالة، ومع وضوح الأمر في دلالتهما أعرض الذين كفروا من غير دليل عقلي ولا نقلي متواتر ولا آحاد، على أنَّ ما اقتضاه الوحي إلى محمد من التوحيد، والجزاء المرتب على الإخلاص له، والصدق في عبودية الله، والدعاء إلى محاسن الأخلاق، مما اجتمعت عليه الرسل قبله، فليس بمدع مِن عنده‏.‏ ه‏.‏ من الحاشية‏.‏

الإشارة‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ يا حبيب ممجد، قد مجدناك بإنزال كتابنا، وعززناك برسالتنا، ما خلقنا الكائنات إلا ملتبسة بأسرار الحق، وأهل الغفلة معرضون عن هذا‏.‏

قال القشيري‏:‏ حَمَيْتُ قلوبَ أهل عنايتي، فصرفتُ عنها خواطر التجويز، ورميتها في مشاهد اليقين بنور التحقيق، فيها شواهد برهانهم، أي‏:‏ برهان العيان- فأضفنا إليها لطائف إحساننا، فكملت مَنالها من عين الوصلة، وغديناهم بنسيم الأنس في ساحات القربة‏.‏ ‏{‏العزيز‏}‏ المعز للمؤمنين بإنزال الكتب، ‏{‏الحكيم‏}‏ لكتابه عن التبديل والتحويل‏.‏ ه‏.‏ وخواطر التجويز هي خواطر الشك في المقدور، يجوز الوقوع وعدمه بسبب ضعف اليقين، فإذا انتفى عن القلب خواطر التجويز، دخله السكون والطمأنينة، وارتاح في ظل برد الرضا والتسليم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏4‏)‏ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد، توبيخاً وتبكيتاً لهم‏:‏ ‏{‏أرأيتم‏}‏ أخبروني ‏{‏ماتَدْعون من دون الله‏}‏ ما تعبدون من الأصنام من دون الله، ‏{‏أَرُونِي ماذا خلقوا من الأرض‏}‏ أيّ شيء خَلقوا في الأرض إن كانوا آلهة‏؟‏ ‏{‏أم لهم شِرْكٌ في السماوات‏}‏ أي‏:‏ أم لهم شركة مع الله في خلق السموات، حتى يتوهم أن تكون لهم شائبة استحقاق للعبادة‏؟‏ فإنَّ مَن لا مدخل له في شيء من الأشياء، بوجه من الوجوه، بمعزل من ذلك الاستحقاق بأسره، وإن كان من الأحياء العقلاء، فما ظنك بالجماد‏؟‏ ‏{‏ائتُوني بكتابٍ مِن قبل هذا‏}‏ أي‏:‏ من قبل القرآن، يعني‏:‏ أن هذا الكتاب ناطق بالتوحيد، وإبطال الشرك، وما من كتاب أنزل مِن قَبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك، فأتوا بكتاب واحد مُنزل مِن قبله، شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله، ‏{‏أو أثَارةٍ من عِلم‏}‏ أو بقيةٍ من علم بقيت عندكم من علوم الأقدمين، شاهدة باستحقاق الأصنام للعبادة، ‏{‏إِن كنتم صادقين‏}‏ في أن الله أمركم بعبادة الأوثان، فإن الدعوى لا تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي، ولا سلطان نقلي، وحيث لم يقم عليها شيء، بل قامت على خلافها أدلةُ العقل والنقل تبين بطلانها‏.‏

‏{‏ومَن أضلُّ‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أشد ضلالاً ‏{‏ممن يدعو مِن دون الله مَن لا يستجيبُ له إِلى يوم القيامة‏}‏ غاية لنفي الإجابة، ‏{‏وهم عن دعائهم غافلون‏}‏ لأنهم جمادات لا يسمعون‏.‏

‏{‏وإِذا حُشر الناسُ‏}‏ عند قيام الساعة ‏{‏كانوا لهم أعداءً‏}‏ أي‏:‏ الأصنام لعَبَدَتِهَا، ‏{‏وكانوا‏}‏ أي‏:‏ الأصنام ‏{‏بعبادتهم كافرين‏}‏ جاحدين، يقولون‏:‏ ما دعوناهم إلى عبادتنا، والحاصل‏:‏ أنهم في الدنيا لا ينفعونهم، وفي الآخرة يتبرؤون منهم، ويكونون عليهم ضِداً، ولَمَّا أسند إليهم ما يُسند إلى العقلاء من الاستجابة والغفلة؛ عبَّر عنهم ب «من» و«هم»، ووصفُهم بترك الاستجابة تهكماً بها وبعبدَتِها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ يقال لأهل الغفلة‏:‏ أرأيتم ما تركنون إليه من الخلق، هل لهم قوة على نفعكم أو ضركم‏؟‏ ‏{‏أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شِرك في السماوات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فلا أحد أضل ممن يرجو الضعيف مثله، الذي لا يستجيب له إلى يوم القيامة، وهو غافل عن إجابته في الحال والمآل، وإذا أحبّه على هوى الدنيا صارت يوم القيامة عداوة ومقتاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِذا تتلى عليهم آياتُنا بيناتٍ‏}‏ واضحات، أو‏:‏ مبنيات، جمع بيِّنة، وهي الحجة والشاهد، ‏{‏قال الذين كفروا للحق‏}‏ أي‏:‏ لأجله وفي شأنه، والمراد بالحق‏:‏ الآيات المتلوة، وبالذين كفروا‏:‏ المتلُوّ عليهم، فوضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر والمتلُو بالحق، والأصل‏:‏ قالوا في شأن الآيات، التي هي حق ‏{‏لمَّا جاءهم‏}‏ أي‏:‏ بادهوا الحق بالجحود ساعة أتاهم، وأول ما سمعوه، من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر‏:‏ ‏{‏هذا سحر مبين‏}‏ ظاهر كونه سحر‏.‏

‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏ إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة- وهي تسميتهم الآيات سحراً، إلى حكاية ما أشنع منها، وهو كون الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏افتراه‏}‏ أي‏:‏ اختلقه، وأضافه إلى الله كذباً، والضمير للحق، والمراد به الآيات‏.‏ ‏{‏قل إِن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً‏}‏ أي‏:‏ إن افتريته على سبيل الفرض لعاجلني الله بعقوبة الافتراء، فلا تقدرون على كفه من معاجلتي، ولا تملكون لي شيئاً مِن دفعه، فكيف أفتريه وأتعرّض لعقابه الذي لا مناص منه‏؟‏‏!‏ ‏{‏هو أعلم بما تُفيضون فيه‏}‏ من القدح في وحي الله تعالى والطعن في آياته، وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى‏.‏ ‏{‏كفى به شهيداً بيني وبينكم‏}‏ حيث يشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والجحود، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم، ‏{‏وهو الغفورُ الرحيم‏}‏ لمَن تاب وآمن، وهو وعد لمَن آمن بالمغفرة والرحمة، وترغيب في الإسلام‏.‏

الإشارة‏:‏ رمي أهل الخصوصية بالسحر عادةٌ مستمرة، وسُنَّة ماضية، ولقد سمعنا هذا فينا وفي أشياخنا مراراً، فيقول أهل الخصوصية‏:‏ إن افترينا على الله كذباً عاجلنا بالعقوبة، ‏{‏فلا تملكون لنا من الله شيئاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏9‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل ما كنتُ بِدعاً‏}‏ أي‏:‏ بديعاً، كخف وخفيف، ونصب ونصيب، فالبدع والبديع من الأشياء‏:‏ ما لم يتقدم مثله، أي‏:‏ لستُ بأول مرسل فتُنكر نبوتي، بل تقدمت الرسل قبلي، واقترِحتْ عليهم المعجزات، فلم يقدروا على الإتيان بشيء إلا ما أظهره الله على أيديهم، في الوقت الذي يُريد‏.‏ قيل‏:‏ كانت قريش تقترح على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات تظهر لهم، ويسألونه عن الغيبيات، عناداً ومكابرة، فأُمر صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم‏:‏ ما كنت بِدعاً من الرسل، قادراً ما لم يقدروا عليه، حتى آتيكم بكل ما تقترحونه، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من الغيوب، فإنَّ مَن قبلي من الرسل عليم السلام ما كانوا يأتون إلا بما آتاهم الله تعالى من الآيات، ولا يُخبرون إلا بما أوحي إليهم، ‏{‏وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم‏}‏ أي‏:‏ لا أدري ما يُصيبنا فيما يستقبل من الزمان من أفعاله تعالى، وماذا يبرز لنا من قضاياه‏.‏ وعن الحسن‏:‏ ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ما يُفعل بي ولا بكم في الآخرة‏.‏

وقال‏:‏ إنه منسوخ بقوله‏:‏ ‏{‏لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ قال شيخ شيوخنا الفاسي‏:‏ وهو بعيد، ولا يصح النسخ؛ لأنه لا يكون في الأخبار، ولأنه لم يزل يعلم أن المؤمن في الجنة، والكافر في النار، من أول ما بعثه الله، لكن محمل قول ابن عباس وغيره على أنه لم تكشف له الخاتمة، فقال‏:‏ لا أدري، وأما مَن وافى على الإيمان، فقد أعلم بنجاته من أول الرسالة، وإلا فكان للكفار أن يقولوا‏:‏ وكيف تدعونا إلى ما لا تدري له عاقبة‏؟‏ قاله ابن عطية‏.‏ ه‏.‏ وقال أبو السعود‏:‏ والأوفق بمان ذكر من سبب النزول‏:‏ أن «ما» عبارة عما عِلْمُه ليس من وظائف النبوة، من الحوادث الواقعات الدنيوية، دون ما سيقع في الآخرة، فإنَّ العلم بذلك من وظائف النبوة، وقد ورد به الوحي، الناطق بتفاصيل الفعل بالجانبين‏.‏ هذا، وقد رُوي عن الكلبي‏:‏ «أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له صلى الله عليه وسلم وقد ضجروا من إذاية المشركين‏:‏ متى نكون على هذا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم‏}‏ أأترَكُ بمكة أو أومر بالخروج إلى أرض ذات نخيل وشجر، قد رفعتْ إليّ ورأيتها‏.‏ ه‏.‏ وسأتي في الإشارة تحقيق المسألة إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِن أتبعُ إِلا ما يُوحَى إِليَّ‏}‏ أي‏:‏ ما أفعل إلا الاتباع، على معنى‏:‏ قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على اتباع الوحي، لا قصر اتباعه على الوحي، كما هو المتبادر، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار بالغيوب، أو عن استعجال المسلمين أن يتخلّصوا من إذاية المشركين، والأول هو الأوفق بقوله‏:‏ ‏{‏وما أنا إِلا نذير مبين‏}‏ أُنذركم عقاب الله تعالى حسبنا يُوحى إليّ من الإنذار بالمعجزات الباهرة‏.‏

‏{‏قل أرأيتم إِن كان‏}‏ ما يوحى إليّ من القرآن ‏{‏مِن عند الله‏}‏ لا بسحر ولا مفترى كما تزعمون ‏{‏و‏}‏ قد ‏{‏كفرتم به وشَهِدَ شاهدٌ‏}‏ عظيم ‏{‏من بني إِسرائيل‏}‏ الواقفين على شؤون الله وأسرار الوحي، بما أُوتوا من التوراة‏.‏ والشاهد‏:‏ عبد الله بن سلام، عند الجمهور، ولهذا قيل‏:‏ إن الآية مدنية، لأن إسلام «عبد الله بن سلام» بالمدينة‏.‏ قلت‏:‏ لَمّا عَلِمَ اللّهُ ما يكون من ابن سلام من الإسلام أخبر به قبل وقوعه، وجعل شهادته المستقبلة كالواقعة، فالآية مكية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏على مثله‏}‏ أي‏:‏ مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة، المطابقة لما في القرآن من الوعد والوعيد وغير ذلك، فإنَّ ما فيه عين ما فيها في الحقيقة، كما يُعرب عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأَوَّلِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 196‏]‏ والمثلية باعتبار كونه من عند الله‏.‏ وقيل‏:‏ المثل‏:‏ صلة‏.‏

‏{‏فآمَنَ‏}‏ ذلك الشاهد لَمّا تحقق برسالته‏.‏ رُوي أنه لما قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وقال له‏:‏ إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ‏:‏ ما أول أشراط الساعة‏؟‏ وما أول طعام يأكله أهل الجنة‏؟‏ وما بالُ الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمة‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أما أول أشراط الساعة؛ فنارٌ تحشُرُ الناسَ من المشرق إلى المغرب، وأول طعام يأكله أهل الجنة؛ فزيادة كبد الحوت، وأما الولد؛ فإذا سبقَ ماءُ الرجل نزعه، وإن سبق ماءُ المرأة نزعته» فقال‏:‏ أشهد أنك رسول الله حقاًُ، فأسلم‏.‏

‏{‏واستكبرتم‏}‏ عن الإيمان به، وجواب الشرط محذوف، والمعنى‏:‏ أخبروني إن كان من عند الله، وشهد بذلك أعلم بني إسرائيل، فآمن به من غير تلعثم، واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه البينة، فمَن أضل منكم‏؟‏ بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 52‏]‏ الآية أو‏:‏ إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين‏؟‏ ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏إِن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏، والتقديران صحيحان، لأن عدم الهداية مستلزم الضلال، ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم، فإن تركه- تعالى- لهدايتهم إنما هو لظلمهم‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ معنى‏:‏ ‏{‏إِنّ الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏‏:‏ إن الله جعل جزاء المعاندين للإيمان بعد الوضوح والبيان أن يمدهم في ضلالتهم، ويحرمهم الهداية‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ قل ما كنت بِدعاً من الرسل، وكذلك الوليّ يقول‏:‏ ما كنت بِدعاً من الأولياء، مع العصمة والحفظ وصريح الوعد بالنجاة، لاتساع معرفتهم وعلمهم بالله؛ لأنهم لا يقفون مع عد ولا وعيد؛ لأن غيب المشيئة لا يعلم حقيقته إلا الله، وقد يكون الوعد معلقاً بشروط أخفاها الله عنهم، ليتحقق اختصاصه بحقيقة العلم، وفي الحديث‏:‏

«لا تأمن مكري وإن أَمَّنتك»، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، وعلى ذلك الششتري في نونيته، حيث قال‏:‏

وأي وِصَالٍ في القَضِيَّة يُدَّعى *** وأكلُ مَن الْخَلْق لم يدَّع الأمْنا‏؟‏

هذا، وقد قال تعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَللأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 4، 5‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏، ومع ذلك كله لم يقف مع ظاهر الوعد، لغيب المشيئة، فقال في حديث ابن مظعون‏:‏ «والله لا أدري- وأنا رسول- ما يُفعل بي» وحديث ابن مظعون بالمدينة بعد الهجرة، فتبيَّن أنَّ الأمن الحقيقي لا يحصل لأحد قبل الختام، وإن كان الغالب والطرف الراجح أن من وُعد بخيرٍ أو بُشِّر به يُنْجَز له بفضل الله وكرمه، والكريم إذا وعد لا يُخلف، لكن المشيئة وقهرية الربوبية لا تزال فوق رأس العبد حتى يلقاه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

قال القشيري‏:‏ وفي الآية دليل على فساد قول أهل البدع، حيث لم يُجوزوا إيلام البريء عقلاً؛ لأنه لو لم يَجُزْ ذلك لكان يقول‏:‏ أعْلَمُ قطعاً أني معصومٌ، فلا محالةَ يغفر لي، ولكنه قال هذا ليُعلم أن الأمر أمرُه، والحكمَ حكمُه، له أن يفعلَ بعباده ما يريد‏.‏ ه‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ لا أدري أين استغرق في بحار وصال جماله الأبدي، وهناك لججات تغيب في ذرة منها جميعُ الأرواح العاشقة، والأسرار الوالهة، والقلوب الحائرة‏.‏ ه‏.‏ والحاصل‏:‏ أنه لا يدري نهاية مناله من الله، لنفي الغاية في حقه تعالى والنهاية، وهو صريح استبعاد الششتري دعوى الوصال، والله أعلم‏.‏ ه‏.‏ من الحاشية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

يقوله الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا للذين آمنوا‏}‏ أي‏:‏ لأجلهم، وهو كلام كفار مكة، قالوا‏:‏ إنَّ عامة مَن يتبع محمد السُّقاط، يعنون الفقراء، كعمار وصهيب وبلال وابن مسعود رضي الله عنهم، قالوا‏:‏ ‏{‏لو كان‏}‏ ما جاء به محمد من القرآن والدين ‏{‏خيراً ما سبقونا إِليه‏}‏ فإن معالي الأمور لا تنالها أيدي الأرذال، فإنَّ عامتهم فقراء وموالٍ ورُعاة، قالوه زعماً منهم أن الرئاسة الدينية مما تُنال بأسباب دنيوية، كما قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏، وضلّ عنهم أنها منوطة بكمالات نفسانية، وملكات روحانية، مبناها‏:‏ الإعارض عن زخارف الدنيا، والإقبال على الله بالكلية، وأنّ مَن فاز بها حازها بحذافيرها، ومَن حرمها فما له عند الله من خلاق‏.‏ والحاصل‏:‏ أن هذه المقالة سببها الرضا عن النفس، وهو صل كل معصية وغفلة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإِذ لم يهتدوا به‏}‏ العامل في الظرف محذوف؛ لدلالة الكلام عليه، أي‏:‏ وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم، وقالوا ما قالوا‏:‏ ‏{‏فسيقولون‏}‏ غير مكتفين بنفي خيريته‏:‏ ‏{‏هذا إِفك قديم‏}‏ أي‏:‏ كذب متقادم، كقوله‏:‏ ‏{‏أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقال القشيري‏:‏ إنه تكذيب للرسل فيما بُيّن لهم، فما أُنزل عليهم من بعثة محمد رسولاً، يعني‏:‏ فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا بِكُلِّ كَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 48، الزخرف‏:‏ 30‏]‏، وقيل لابن عباس‏:‏ أين نجد في القرآن «مَن كره شيئاً عاداه»، فقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإذ لم يهتدوا‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

‏{‏ومِن قبله‏}‏ أي‏:‏ مِن قبل القرآن ‏{‏كتابُ موسى‏}‏ أي‏:‏ التوراة، فكتاب‏:‏ مبتدأ، و«من قبله»‏:‏ خبر، والاستقرار هو العامل في قوله‏:‏ ‏{‏إِماماً ورحمةً‏}‏ على أنهما حالان من الكتاب، أي‏:‏ قدوة يُؤْتمُ به في دين الله وشرائعه، ورحمة من الله تعالى لمَن آمن به‏.‏ ‏{‏وهذا‏}‏ القرآن، الذي يقولون في حقه ما يقولون، هو ‏{‏كتاب‏}‏ عظيم الشأن ‏{‏مُصدِّق‏}‏ لكتاب موسى، الذي هو أماماً ورحمة، أو‏:‏ لِما بين يديه من جميع الكتب الإلهية‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ وجه مناسبتها لما قبلها‏:‏ أنه لما تضمن قوله‏:‏ ‏{‏فسيقولون هذا إفك قديم‏}‏ تقبيحهم إياه بأنه إما كذب في نفسه، أو شبيه بما قبله من الأكاذيب والافتراءات، عقبه ببيان أنه إما صدق في نفسه، أو شبيه بما قبله من الكتب الصادقة‏.‏ ه‏.‏

حال كون الكتاب ‏{‏لساناً عربياً ليُنذر الذين ظلموا‏}‏ متعلق بمُصَدِّق، أو بأنزل، محذوفاً، وفيه ضمير الكتاب، أو‏:‏ الله تعالى، أو‏:‏ الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤيده‏:‏ قراءة الخطاب، ‏{‏وبُشرى للمحسنين‏}‏ في حيز النصب، عطف على محل «ليُنذر»؛ لأنه مفعول له، أي‏:‏ للإنذار والبشرى، أو‏:‏ وهو بشرى للمحسنين، للمؤمنين المطيعين‏.‏

الإشارة‏:‏ قال في الحِكَم‏:‏ «أصل كل معصية وغفلة وشهوة‏:‏ الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة‏:‏ عدم الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، فأيّ علِم لعالم يرضى عن نفسه‏؟‏ وأيّ جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه‏؟‏»، وعلامة الرضا عن النفس‏:‏ تغطية مساوئها، وإظهار محاسنها، كما قال الشاعر‏:‏

وَعَيْنُ الرِضَا عَن كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ *** ولَكِن عَين السخطِ تُبدِي المساوي

وإذا نقصها له أحدٌ انتقم منه وغضب، وإذا مدحها له فَرِحَ واستبشر، ويرى أنه أهل لكل خيرٍ، وأولى من غيره، فيقول إذا رأى مَن حاز خيراً أو رئاسة، كما قال الكفار‏:‏ لو كان خيراً ما سبقونا إليه، وعلامة عدم الرضا عنها‏:‏ إظهار مساوئها، واتهامها في كل حال‏.‏

وقال أبو حفص الحداد‏:‏ مَن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه، كان مغروراً، ومَن نظر إلى نفسه باستحسان شيء منها فقد أهلكها، وكيف يصح لعاقل الرضا عن نفسه‏؟‏‏!‏ والكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 35‏]‏ ه‏.‏

فإذا لم يرضَ عن نفسه، وهذّبها، استقامت أحواله، وكان من المحسنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏13‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِن الذين قالوا ربُّنا اللّهُ ثم استقاموا‏}‏ أي‏:‏ جمعوا بين التوحيد، الذي هو خاصة العلم، والاستقامة في الظاهر، التي هي منتهى العمل، ‏{‏فلا خوفٌ عليهم‏}‏ من لحوق مكروه، ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ على فوات مرغوب، و«ثم» للدلالة على تراخي رتبة العمل، وتوقف الاعتداد به على التوحيد‏.‏ ودخلت الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط، والتعبير بالمضارع للدلالة على دوام نفي الحزن عنهم، ‏{‏أولئك‏}‏ الموصوف بما ذكر من الاسمين الجليلين، ‏{‏أصحابُ الجنة خالدينَ فيها‏}‏ حال من أصحاب الجنة، والعامل‏:‏ معنى الإشارة، ‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏ من الأعمال الصالحة، و«جزاء» مصدر لمحذوف، أي‏:‏ جوّزوا جزاء، أو بمعنى ما تقدم، فإن قوله‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب الجنة‏}‏ في معنى‏:‏ جزيناهم‏.‏

الإشارة‏:‏ مضى تفسير الاستقامة، وأنَّ مَن درج على الإيمان والاستقامة حظي بكل كرامة، ووصل إلى جزيل السلامة، وقيل‏:‏ السين في الاستقامة سين الطلب، وأنَّ المستقيم يتوسل إلى الله تعالى في أن يقيمه على الحق، ويثبته على الصدق‏.‏ ه‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ ما قال القوم هذا القول- أي‏:‏ «ربنا الله»- حتى شاهدوه بقلوبهم، وعقولهم، وأرواحهم، وأسرارهم، مشاهدة الحق سبحانه، فإذا رأوه يقولون‏:‏ هذا الهلال، وصاحوا، وضحكوا، فهذا القول منهم بعد كشف مشاهدة الحق لهم، فلما رأوه أبحوه وعرفوه، وشربوا من بحار وصالة، حتى تمكنوا، فاستقاموا بقوتها في موازاة رؤية أنوار الأزل والآباد، واستقاموا في مراد الله منهم، وأداء حقوق عبوديته، فلا يبقى عليهم خوف الحجاب، ولا حزن العتاب، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ووصينا الإِنسانَ‏}‏ بأن يُحسن ‏{‏بوالديه حُسناً‏}‏ وقرأ أهل الكوفة ‏{‏إحساناً‏}‏ وهما مصدران، وقرئ‏:‏ «حَسَناً» بفتح الحاء والسين، أي‏:‏ يفعل بهما فعلاً حَسَناً، أو‏:‏ وصينا إيصاءً حَسَاناً، ‏{‏حملته أُمه كُرْهاً ووضعته كُرهاً‏}‏ أي‏:‏ حملته بكُرْهٍ ومشقة، ووضعته كذلك، وذكره للحث على الإحسان والبرور بها، فإن الإحسان إليها أوجب، وأحق من الأب، ونصبهما على الحال، أي‏:‏ حملته كارهة، أو‏:‏ ذات كُره، وفيه لغتان؛ الفتح والضم، وقيل‏:‏ بالفتح مصدر، وبالضم اسمه‏.‏ ‏{‏وحَمْلُه وفِصَالُه‏}‏ أي‏:‏ ومدةُ حمله وفصاله، وهو الفطام‏.‏ وقرأ يعقوبُ‏:‏ «وفصله» وهما لغتان كالفَطْم والفطام، ‏{‏ثلاثون شهراً‏}‏ لأن في هذه المدة عُظَّم مشقة التربية، وفيه دليل على أن أقل مدة ستةُ أشهر؛ لأنه إذ حُط منه لفطام حولان، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ يبقى للحمل ستة، قيل‏:‏ ولعل تعيين أقل مدة الحمل، وأكثر مدة الرضاع لانضباطهما، وارتباطِ النسب والرضاع بهما‏.‏

‏{‏حتى إِذا بلغ أشُدَّه‏}‏ أي‏:‏ اكتهل، واستحكم عقله وقوته، وانتهت قامته وشبابه، وهي ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين، وقال زيد بن أسلم‏:‏ الحلم، وقال قتادة‏:‏ ستة وثلاثون سنة، وهو الراجح، وقال الحسن‏:‏ قيام الحجة عليه‏.‏ ‏{‏وبلغ أربعين سنة‏}‏ وهو نهاية الأشدّ، وتمام العقل، وكمال الاستواء‏.‏

قيل‏:‏ لم يُبعث نبيّ إلا بعد الأربعين، قال ابن عطية‏:‏ وإنما ذكر تعالى الأربعين، لأنها حدّ الإنسان في فلاحه ونجاته، وفي الحديث «إن الشيطان يمدّ يده على وجه مَن زاد على الأربعين ولم يتب، فيقول‏:‏ بأبي وَجْهٌ لايُفلح» ه‏.‏ ومن حديث أنس قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَن بلغ أربعين سنة أمّنه الله من البلايا لثالث‏:‏ الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ الخمسين خفّف الله عنه الحساب، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة كما يُحب، فإذا بلغسبعين سنة غفر الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وشفع في أهل بيته، وناداه منادٍ من السماء‏:‏ هذا أسير الله في أرضه» وهذا في العبد المقبل على الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ وقُرئ‏:‏ «حتى إذا استوى وبلغ أشُدَّه»‏.‏

‏{‏قال ربِّ أوزعني‏}‏ أي‏:‏ ألهمني ‏{‏أن أشكر نعمتك التي أنعمتَ عليَّ‏}‏ من الهداية والتوحيد، والاستقامة على الدين، ‏{‏وعلى والديَّ‏}‏ كذلك، وجمع بين شكر النعمة عليه وعلى والديه؛ لأن النعمة عليهما نعمةٌ عليه، ‏{‏وأنْ أعمل صالحاً ترضاه‏}‏ التنكير للتفخيم والتكثير، قيل‏:‏ هو الصلوات الخمس، والعموم أحسن، ‏{‏وأَصْلِحْ لي في ذُريتي‏}‏ أي‏:‏ واجعل الصلاة سارياً في ذريتي راسخاً فيهم، أو‏:‏ اجعل ذريتي مَوقعاً للصلاح دائماً فيهم، ‏{‏إِني تُبتُ إِليك‏}‏ من كل ذنب، ‏{‏وإِني من المسلمين‏}‏ الذين أخلصوا لك أنفسهم، وانقادوا إليك بكليتهم‏.‏

قال عليّ رضي الله عنه‏:‏ نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ولم تجتمع لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين مَن أسلم أبواه غيره، وأوصاه الله بهما‏.‏ ه‏.‏ فاجتمع لأبي بكر إسلام أبي قحافة وأمه «أم الخير» وأولاده‏:‏ عبد الرحمن، وابنه عتيق، فاستجاب الله دعاءه في نفسه وفي ذريته، فإنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، ودعا لهم وهو ابن أربعين سنة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أعتق أبو بكر تسعةً من المؤمنين، منهم‏:‏ بلال، وعامر بن فهيرة، ولم يُرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه‏.‏ ه‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ معنى الآية‏:‏ هكذا ينبغي للإنسان أن يكون، فهي وصية الله تعالى للإنسان في كل الشرائع، وقول مَن قال‏:‏ إنها في أبي بكر وأبويه ضعيف، لأن هذه نزلت في مكة بلا خلاف، وأبو قُحافة أسلم يوم الفتح‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ كثيراً ما يقع في التنزيل تنزيل المستقبل منزلة الماضي، فيُخبر عنه كأنه واقع، ومنه‏:‏ ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَآءِيلَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ و‏{‏وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6، 7‏]‏ وهذه الآية في إسلام إبي قحافة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

‏{‏أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا‏}‏ من الطاعات، فإن المباح لا يُثاب عليه إلا بنية صالحة، فإن يَنقلِب حينئذ طاعة، وضمّن «يتقبل» معنى يتجاوز، فعدّاه بعَن؛ إذ لا عمَلَ يستوجبُ القبول، لولا عفوُ الله وتجاوزه عن عامله، إذ لا يخلو عمل من خلل أو نقص، فإذا تجاوز الحق عن عبده قَبِلَه منه على نقصه، فلولا حلمه تعالى ورأفته ما كان عملٌ أهلاً للقبول‏.‏ ‏{‏ويتجاوز عن سيائتهم‏}‏ فيغفر لهم، ‏{‏في‏}‏ جملة ‏{‏أصحاب الجنة‏}‏ كقولك‏:‏ أكرمني الأمير في نار من أصحابه، أي‏:‏ أكرمني في جملة مَن أكرمهم، ونظمني في سِلكِهمْ ومحله‏:‏ نصب على الحال، أي‏:‏ كائنين في أصحاب الجنة، ومعدودين فيهم، ‏{‏وَعْدَ الصِّدق‏}‏ أي‏:‏ وعدهم وعداً صدقاً، فهو مصدر مؤكد، لأن قوله‏:‏ ‏{‏يتقبل ويتجاوز‏}‏ وعد من الله تعالى لهم بالتقبُّل والتجاوز، ‏{‏الذي كانوا يُوعدون‏}‏ في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام‏.‏

الإشارة‏:‏ لمَّا كانت تربية الأبوين مظهراً لنعمة الإمداد بعد ظهور نعمة الإيجاد وصّى الله تعالى بالإحسان إليهما، وفي الحقيقة‏:‏ ما ثمَّ إلا تربيةُ الحق، ظهرت في تجلِّي الوالدين، قذف الرأفة في قلوبهما، حتى قاما بتربية الولد، فالإحسان إليها إحسان إلى الله تعالى في الحقيقة‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ وصى الإنسانَ بالإحسان إلى أبويه، لأنهما أسباب وجوده، ومصادر أفعال الحق بَدَا منهما بدائعُ قدرته، وأنوارُ ربوبيته، فحُرمتهما حرمة الأصل، ومَن صبرَ في طاعتهما رزقه الله حُسنَ المعاشرة على بساط حُرمته وقُربته‏.‏

قال بعضهم‏:‏ أوصى اللّهُ العوام ببر الوالدين لِما لهما عليه من نعمة التربية والحِفظ، فمَن حفظ وصية الله في الأبوين، وفّقه بركةُ ذلك، لحِفظِ حرمات الله، وكذلك رعاية الأوامر والمحافظةُ عليها تُوصل بركتُها بصاحبها إلى محل الرضا والأنس‏.‏

ه‏.‏

قال القشيري‏:‏ وشر خصال الولد‏:‏ التبرُّم بطول حياتهما، والتأذي بما يجب من حقهما، وعن قريب يموت الأصل، وقد يبقى النسل، ولا بد ان يتبعَ الأصل‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ فيعق إن عقّ أصله، ويبر إن بر، وفي الحديث‏:‏ «برُّوا آباءَكُمء تبركمْ أبناؤكم» ثم قال‏:‏ ولقد قالوا في هذا المعنى وأنشدوا‏:‏

رُوَيْدَكَ إنَّ الدَّهْرَ فيه كفاية *** لِتَفْرِيق ذات البَيْنِ فارتقِبِ الدَّهرا

ه‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم أن حُرمة الشيخ أوكد من حرمة الوالدين، فيُقدم أمره على أمرهما، كما تقدّم عن الجنيد في سورة النساء‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏17‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏18‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏والذي قال‏}‏ مبتدأ، وخبره‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حقَّ عليهم القول‏}‏، والمراد ب «الذي قال» الجنس، ولذلك جمع الخبر‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالديه‏}‏ عند دعوتهما إلى الإيمان‏:‏ ‏{‏أُفًّ لكما‏}‏ وهو صوت يصدر عن المرء عند تضجُّره، وقَنَطِه، واللام لبيان المؤفّف، كما في «هيتَ لك» وفيه أربعون لغة، مبسوطة في محلها، أي‏:‏ هذا التأفيف لكما خاصة، أو لأجلكما دون غيركما‏.‏

وعن الحسن‏:‏ نزلت في الكافر العاقّ لوالديه، المكذِّب بالبعث، وقيل‏:‏ نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، قبل إسلامه‏.‏ وأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك، وقالت‏:‏ والله ما نزل في آل أبي بكر شيئاً من القرآن، سوى براءتي، ويُبطل ذلك قطعاً‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول‏}‏ لأنَّ عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم، وكان من فضلاء الصحابة، وحضر فتوحَ الشام، وكان له هناك غناء عظيم، وكان يسرد الصيامَ‏.‏ قال السدي‏:‏ ما رأيت أعبد منه‏.‏ ه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت في ابنٍ لأبي بكر، ولم يسمه، ويرده ما تقدّم عن عائشة، ويدل على العموم‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حقّ عليهم القول‏}‏، ولو أراد واحداً لقال‏:‏ حق عليه القول‏.‏

ثم قال لهما‏:‏ ‏{‏أَتعدانِني أن أُخْرَج‏}‏ أي‏:‏ أُبعث وأُخرج من الأرض، ‏{‏وقد خَلَت القرونُ من قبلي‏}‏ ولم يُبعث أحد منهم، ‏{‏وهما يستغيثانِ اللّهَ‏}‏ يسألانه أن يُغيثه ويُوقفه للإيمان، أو يقولان‏:‏ الغِياث بالله منك، ومن قولك، وهو استعظام لقوله، ويقولان له‏:‏ ‏{‏وَيْلكَ‏}‏ دعاء عليه بالثبور والهلاك، والمراد به‏:‏ الحث والتحريضُ على الإيمان، لا حقيقة الهلاك، ‏{‏آمِنْ‏}‏ بالله وبالبعث ‏{‏إِنَّ وعدَ الله‏}‏ بالبعث والحساب ‏{‏حَقٌّ‏}‏ لا مرية فيه، وأضاف الوعد إليه- تعالى- تحقيقاً للحق، وتنبيهاً على خطئه، ‏{‏فيقول‏}‏ مكذّباً لهما‏:‏ ‏{‏ما هذا‏}‏ الذي تسميانه وعْد اللّهِ ‏{‏إلا أساطيرُ الأولين‏}‏ أباطيلهم التي سطروها في كتبهم، من غير أن يكون له حقيقة‏.‏

‏{‏أولئك الذين حقَّ عليهم القولُ‏}‏ وهو قوله تعالى لإبليس‏:‏ ‏{‏لأَمَّلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 18‏]‏ كما يُنبئ عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في أمم قد خلت مِن قبلهم من الجن والإنس‏}‏ أي‏:‏ في جملة أمم قد مضت، ‏{‏إِنهم كانوا خاسرين‏}‏ حيث ضيّعوا فطرتهم الأصلية، الجارية مجرى رؤوس أموالهم، باتباعهم الشيطان، وتقليداً بآبائهم الضالين‏.‏

‏{‏ولكلٍّ‏}‏ من الفريقين المذكورين، الأبرار والفجار، ‏{‏درجاتٌ مما عملوا‏}‏ أي‏:‏ منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، ويقال في جانب الجنة‏:‏ درجات، وفي جانب النار‏:‏ دركات، فغلب هنا جانب الخير‏.‏

قال الطيبي‏:‏ ولكلٍّ من الجنسين المذكورين درجاتٌ، والظاهر أن أحد الجنسين ما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 13‏]‏، والآخر قوله‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالديه أُف لكما‏}‏ ثم غلب الدرجات على الدركات، لأنه لمّا ذكر الفريق الأول، ووصفَهم بثباتٍ في القول، واستقامةٍ في الفعْل، وعقَّب ذلك بذكر فريقِ الكافرين، ووصفهم بعقوق الوالدين، وبإنكارهم البعثَ، وجعل العقوقَ أصلاً في الاعتبار، وكرر في القِسم الأول الجزاء، وهو ذكر الجنة مراراً ثلاثاً، وأفْردَ ذكر النار، وأخّره، وذكرَ ما يجمعُهما، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ولكلٍّ درجات‏}‏ غلّب الدرجات على الدركات لذلك، وفيه ألا شيء أعظم من التوحيد والثبات عليه، وبر الوالدين والإحسان إليهما، ولا شيء أفحش من عقوق الوالدين، وإنكار الحشر، وفي إيقاع إنكار الحشر مقابلاً لإثبات التوحيد الدلالة على أن المنكر معطل مبطل لحكمة الله في إيجاد العالم‏.‏

ه‏.‏

‏{‏ولنُوفيهم أعمالهم‏}‏ وقرأ المكي والبصري بالغيب، أي‏:‏ وليوفيهم الله جزاء أعمالهم، ‏{‏وهم لا يُظلمون‏}‏ بنقص ثواب الأولين، وزيادة عقاب الآخرين، واللام متعلقة بمحذوف، أي‏:‏ وليوفيهم أعمالهم، ولا يظلمهم حقوقهم، فعل ما فعل من ترتيب الدرجات أو الدركات‏.‏

الإشارة‏:‏ عقوق الأساتيذ أقبح من عقوق الوالدين، كما أن برهما أوكد؛ لأن الشيخ أخرجك من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة بالله، والوالدان أخرجاك إلى دار التعب، مُعرض لأمرين، إما السلامة أو العطب، والمراد بالشيخ هنا شيخ التربية، لا شيخ التعليم، فلا يقدّم حقه على حق الوالدين، هذا ومَن يَسّر اللّهُ عليه الجمع بين بِر الوالدين والشيخ فهو كمال الكمال‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ويوم‏}‏‏:‏ منصوب بقول مقدّر قبل ‏{‏أذهبتم‏}‏ أي‏:‏ يقال هم‏:‏ أذهبتم طيباتكم يوم عرضكم، أو باذكر، وهو أحسن‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏يومَ يُعْرَضُ الذين كفروا على النار‏}‏ أي‏:‏ يُعذّبون بها، من قولهم‏:‏ عُرض بنو فلان على السيف، إذا قُتلوا به، وقيل المراد‏:‏ عرض النار عليهم، من قولهم‏:‏ عرضت الناقة على الحوض، يريدون‏:‏ عرض الحوض عليها، فقلبوا‏.‏ وإذا عُرضوا عليها يُقال لهم‏:‏ ‏{‏أَذْهبتُمْ طيباتِكُم‏}‏ أي‏:‏ أخذتم ما كُتب لكم من حظوظ الدنيا ولذائذها ‏{‏في حياتكم الدنيا‏}‏ فقد قدمتم حظكم من النعيم في الدر الفانية

قال ابن عرفة‏:‏ قيل‏:‏ المراد بالطيبات المستلذات، والظاهر‏:‏ أن المراد أسباب المستلذات، أي‏:‏ الأسباب التي تتوصلون بها إلى نيل المستلذات في الدار الآخرة، إذ نسيتموها في الدنيا، أي‏:‏ تركتموها ولم تفعلوها‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ يُبعده قوله‏:‏ ‏{‏واستمتعتم بها‏}‏ أي‏:‏ فلم يُبق ذلك لكم شيئاً منها، بل قدمتم جنتكم في دنياكم‏.‏

وعن عمر رضي الله عنه‏:‏ لو شئتُ كنتُ أطيبَكم طعاماً، وألينكم لباساً، ولكني أستبقي طيباتي‏.‏ ولما قَدِم الشامَ صُنعَ له طعامٌ لم يُر قبله مثله، قال‏:‏ هذا لنا، فما للفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون خبز الشعير‏؟‏ قال خالد، لهم الجنة، فاغروْرقتْ عينا عمر وبكى، وقال‏:‏ لئن كان حظنا من الحطام، وذهبوا بالجنة، لقد باينونا بوناً بعيداً، وقال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ إنما كان طعامنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الماء والتمر، والله ما كان نرى سمراءَكم هذه، وقال أبو موسى‏:‏ ما كان لباسنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا الصوف‏.‏

ورُوي‏:‏ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصُّفة، وهم يرقعون ثيابهم بالأدَم، ما يجدون لها رقعاً، فقال‏:‏ «أنتم اليوم خيرٌ أم يومَ يغدوا أحدكم في حُلة، ويروح في أخرى، ويُغدا عليه بجفنة ويُراح بأخرى، ويُسترُ بيته كما تُستر الكعبة» ‏؟‏ قالوا‏:‏ نحن يومئذ خير، فقال لهم‏:‏ «بل أنتم اليوم خير»‏.‏

وقال عمرو بن العاص‏:‏ كنت أتغدّى عند عمر الخبزَ والزيتَ، والخبز والخل، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأجلّ ذلك اللحم الغريض، وكان يقول‏:‏ لا تنخلوا الدقيق، فإنه كله طعامٌ، ثم قال عمر رضي الله عنه‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو، لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركتهم في العيش‏!‏ ولكني سمعتُ اللّهَ يقول لقوم‏:‏ ‏{‏أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها‏}‏‏.‏ ه‏.‏

‏{‏فاليوم تُجزونَ عذابَ الهُونِ‏}‏ أي‏:‏ الهوان، وقرئ به، ‏{‏بما كنتم‏}‏ في الدنيا ‏{‏تستكبرون في الأرض بغير الحق‏}‏ بغير استحقاق لذلك، ‏{‏وبما كنتم تَفْسُقون‏}‏ وتخرجون عن طاعة الله عزّ وجل، أي‏:‏ بسبب استكباركم وفسقكم‏.‏

الإشارة‏:‏ ما زالت الأكابر من الأولياء تتنكب الحظوظ والشهوات، مجاهدةً لنفوسهم، وتصفيةً لقلوبهم، فإنَّ تَتَبُّعَ الشهوات يُقَسي القلب، ويكسِف نور العقل، كما قال الشاعر‏:‏

إنَارَةُ العقل مَكْسُوفٌ بطَوْع هَوىً *** وعَقْلُ عَاصِي الهَوَى يَزْدَادُ تنْوِيرا

هذا في حال سيرهم، فإذا تحقق وصولهم فلا كلام عليهم؛ لأنهم يأخذون من الله، ويتصرفون به في أمورهم كلها، فلا حرج عليهم في نيل ما أنعم الله به عليهم، حيث أمِنوا ضرره، ومن ذلك‏:‏ ما رُوي عن إبراهيم بن أدهم، أنه أصلح ذات يوم طعاماً كثيراً، ودعا نفراً يسيراً، منهم الأوزاعي والثوري، فقال له الثوري‏:‏ أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً‏؟‏ فقال‏:‏ ليس في الطعام إسراف، إنما الإسراف في الثياب والأثاث، ودفع أيضاً إلى بعض إخوانه دراهم، فقال‏:‏ خذ لنا بهذه زُبداً وعسلاً وخبزاً حُوَّاري، فقال‏:‏ يا أبا إسحاق هذا كله‏؟‏ قال‏:‏ ويحك إذا وجدنا أَكَلْنا أكلَ الرجال، وإذا عُدمنا صبرنا صبر الرجال، وإن معروفاً الكرخي كان يُهدي له طيبات الطعام، فيأكل، فيقال له‏:‏ إن أخاك بِشْراً كان كلا يأكل من هذا، فيقول‏:‏ أخي بِشْر قبضه الورعْ، وأنا بسطتني المعرفة، وإنما أنا شضيف في دار مولاي، إذا أطعمني أكلت، وإذا جوّعني صبرت، ما لي وللاعتراض والتمييز‏.‏ ه‏.‏

والحاصل‏:‏ أن الناس أقسام ثلاثة‏:‏ عوام، لا همة لهم في السير، وإنما قنعوا أن يكونوا من عامة أهل اليمين‏.‏ فهؤلاء يأخذون كل ما أباحته الشريعة، إذ لا سير لهم حتى يخافوا من تخلُّفهم، وخواص، نهضت همتُهم إلى الله، وراموا الوصول إليه، وهم في السير لم يتحقق وصولهم، أو من العُبَّاد والزهّاد، يخافون إن تناولوا المستلذات تفتَّرت عزائمهم، فهؤلاء يتأكد في حقهم ترك الحظوظ والشهوات، والقسم الثالث‏:‏ خواص الخواص، قد تحقق وصولهم، ورسخت أقدامهم في المعرفة، فهؤلاء لا كلام معهم، ولا ميزان عليهم‏.‏

قال في الإحياء، بعد كلام‏:‏ وأكل الشهوات لا يُسلَّم إلا لمَن نظر من مشكاة الولاية والنبوة، فيكون بينه وبين الله علامة في استرساله وانقباضه، ولا يكون ذلك إلا بعد خروج النفس من طاعة الهوى والعادة بالكلية، حتى يكون أكلُه إذا أكل بنية، كما يكون إمساكه بنية، فيكون عاملاً له في إفطاره وإمساكه‏.‏ ثم قال‏:‏ وينبغي أن يتعلّم الحزم من عُمر، فإنه كان يرى النبيّ صلى الله عليه وسلم يُحب العسل ويأكله، ثم لم يقس نفسه عليه، بل لمّا عُرض عليه ماء مبرّد بالعسل جعل يُدير الإناء في كفه، ويقول‏:‏ أَشربُها فتذهب حلاوتها وتبقى تباعتُها، اعزلوا عني حسابها، وتركها رضي الله عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 25‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏22‏)‏ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏23‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏24‏)‏ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏واذكر أخا عاد‏}‏ وهو هود عليه السلام ‏{‏إِذا أنذر قومه‏}‏ بدل اشتمال أي‏:‏ وقت إنذاره قومه ‏{‏بالأحقاف‏}‏ جمع حِقْف، وهو رمل مستطيل فيه انحناء، من‏:‏ احقوقف الشيء إذا اعوجَّ، وكان عاد أصحاب عُمُد، يسكنون بين رمال مُشرفة على البحر، بأرض يُقال لها‏:‏ «الشِّحْر» بأرض اليمن‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ الأحقاف‏:‏ واد بين عُمان ومَهْرَة، وقال مقاتل‏:‏ كانت منازل عاد باليمن، في حضرموت، بموضع يقال له‏:‏ مَهْرة، وإليه تنسب الإبل المهرية، ويقال لها‏:‏ المهاري، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إِرَم، والمشهور‏:‏ أن الأحقاف اسم جبل ذا رمل مستطيل، كانت منازل عاد حوله‏.‏

‏{‏وقد خَلَتْ النُذر‏}‏ جميع نذير، بمعنى النذر، أي‏:‏ مضت الرسل، ‏{‏من بين يديه ومن خلفه‏}‏ أي‏:‏ من قبل هود ومَن بعده، وقوله‏:‏ ‏{‏وقد خلت‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏:‏ جملة معترضة بين إنذار قومه وبين قوله‏:‏ ‏{‏ألاَّ تعبدوا إلا اللّهَ‏}‏ مؤكدة لوجوب العمل بموجب الإنذار، وإيذاناً باشتراكهم في العبادة المذكورة، والمعنى‏:‏ واذكر لقومك إنذار هود قومَه عاقبةَ الشرك والعذاب العظيم، وقد أنذر مَن تقدمه مِن الرسل، ومَن تأخر عنه قومهم قبل ذلك‏.‏ ‏{‏إني أخاف عليكم‏}‏ إن عصيتموني ‏{‏عذابَ يومٍ عظيم‏}‏ يوم القيامة‏.‏

‏{‏قالوا أجئتنا لتأفكَنَا‏}‏ لتصرفنا ‏{‏عن آلهتنا‏}‏ عن عبادتها، ‏{‏فأْتنا بما تَعِدُنا‏}‏ من العذاب العظيم ‏{‏إن كنت من الصادقين‏}‏ في وعدك بنزوله بنا، ‏{‏قال إِنما العلمُ‏}‏ بوقت نزوله، أو بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك، ‏{‏عند الله‏}‏ وحده، لا علم لي بوقت نزوله، ولا دخل لي في إيتانه وحلوله، وإنما عِلْم ذلك عند الله، فيأتيكم به في وقته المقدّر له‏.‏ ‏{‏وأُبلغكم ما أُرسلت به‏}‏ من التخويف والإنذار من غير وقف على تعيين وقت نزول العذاب، ‏{‏ولكني أراكم قوماً تجهلون‏}‏ حيث تقترحون عليَّ ما ليس من وظائف الرسل، من الإتيان بالعذاب وتعيين وقته‏.‏

رُوي‏:‏ أنهم قحطوا سنين، ففزعوا إلى الكعبة، وقد كانت بنتها العمالقة، ثم خربت، فطافوا بها، واستغاثوا، فعرضت لهم ثلاث سحابات‏:‏ سوداء وحمراء وبيضاء، وقيل لهم‏:‏ اختاروا واحدة، فاختاروا السوداء، فمرتْ إلى بلادهم، فلما رأوها مستقبلة أوديتهم، فرحوا واستبشروا، وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما رَأَوْهُ‏}‏ أي‏:‏ العذاب الذي استعجلوه بقوله‏:‏ ‏{‏فأتنا بما تعدنا‏}‏ وقيل‏:‏ الضمير مبهم، يُفسره قوله‏:‏ ‏{‏عارضاً‏}‏ على أنه تمييز، أي‏:‏ رأوا عارضاً، والعارض‏:‏ السحاب، سُمي به لأنه يعرض السحاب في أُفق السماء‏.‏ قال المفسرون‏:‏ ساق الله السحابة السوداء التي اختاروها بما فيها من النقمة، فخرجت عليهم من واد يُقال له‏:‏ «مغيث»، فلما رأوها مستقبلة أوديتهم، أي‏:‏ متوجة إليها، فرحوا، وقالوا‏:‏ ‏{‏هذا عارض مُمطرنا‏}‏ أي‏:‏ ممطر إياناً، لأنه صفة النكرة، فيقدر انفصاله‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بل هو ما استعجلتم به‏}‏ من العذاب، وقيل‏:‏ القائل هود عليه السلام، ‏{‏ريحٌ فيها عذابٌ إليم‏}‏ فجعلت تحمل الفساطيط، وتحمل الظعينة فترفعها في الجو، فتُرى كأنها جرادة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لما دنا العارض، قاموا فنظروا، فأول ما عروا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من ديارهم من حالهم ومواشيهم، تطير بهم الريح بين السماء والأرض، مثل الريش، فدخلوا بيوتهم، وأغلقوا أبوابهم، فألقت الريح أبوابهم، وصرعتهم، وأمر الله تعالى الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، لهم أنين، ثم أمر الله تعالى الريح، فكشفت عنهم الرمال، فاحتملتهم، فرمت منهم في البحر، وشدخت الباقي بالحجارة‏.‏

وقيل‏:‏ أول مَن أبصر العذاب امرأة منهم، قالت‏:‏ رأيت ريحاً فيها كشهب النار، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏تُدَمّرُ كلَّ شيء‏}‏ أي‏:‏ تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير، فعبّر عن الكثرة بالكلية‏.‏ ‏{‏بأمر ربها‏}‏ أي‏:‏ رب الريح، وفي ذكر الأمر والرب، والإضافة ألى الريح، من الدلالة على عظيم شأنه تعالى ما لا يخفى، ‏{‏فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنُهُم‏}‏ أي‏:‏ فجاءت الريح فدمرتهم، فصاروا بحيث لا يُرى شيء إلا مساكنهم خاوية، ومَن قرأ بتاء الخطاب، فهو لكل مَن يتأتى منه الرؤية، تنبيهاً على أن حالهم صار بحيث لو نظر كل أحد بلادَهم لا يَرى فيها إلا مساكنهم‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الجزاء الفظيع ‏{‏نجزي القومَ المجرمين‏}‏ وننجي المؤمنين، رُوي أن هود عليه السلام ومَن معه من المؤمنين في حظيرته، ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين على الجلود، وتلذه الأنفس، وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء، والأرض، وتدمغهم بالحجارة‏.‏ سبحان الحكيم القدير، اللطيف الخبير‏.‏

الإشارة‏:‏ إنما جاءت النُذر من عهد آدم عليه السلام إلى القيامة الساعة، تأمر بعبادة الله، ورفض كل ما سواه، فمَن تمسّك بذلك نجى، ومَن عبد غير الله، أو مال إلى سواه، عاجلته العقوبة في الظاهر أو الباطن‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏27‏)‏ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏فيما‏}‏ موصولة، أو موصوفة، ومفعول ‏{‏اتخذوا‏}‏ الأول‏:‏ محذوف، و‏{‏آلهة‏}‏ مفعول ثان، أي‏:‏ اتخذوهم آلهة، و‏{‏قرباناً‏}‏ حال، ولا يصح أن يكون مفعولاً ثايناً ل «اتخذوا»، و«آلهة»‏:‏ بدل، لفساد المعنى، وأجازه ابن عطية، ووجه فساده‏:‏ أن اتخاذهم آلهة منافٍ لاتخاذهم قرباناً؛ لأن القربان مقصود لغيره، والآلهة مقصود بنفسها، فتأمله، و«إن» نافية، والأصل‏:‏ فيما ما مكنكم فيه، ولمّا كان التكرار مستثقلاً جيء بأن، كما قالوا في مهما، والأصل‏:‏ مَا مَا، فلبشاعة التكرار قلبوا الألف هاء، وقيل‏:‏ «إن» صلة، أي‏:‏ في مثل ما مكنكم فيه، والأول أحسن‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد مكَّنَّاهم‏}‏ أي‏:‏ قررنا عاد ومكناهم في التصرُّف ‏{‏فيما‏}‏ أي‏:‏ في الذي، أو في شيء ما ‏{‏مكناكم‏}‏ يا معشر قريش ‏{‏فيه‏}‏ من السعة والبسطة، وطول الأعمار، وسائر مبادئ التصرفات، فما إغنى عنهم شيء من ذلك، حين نزل بهم الهلاك، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏ أو‏:‏ ولقد مكنهم في مثل ما مكنكم فيه، فما جرى عليهم يجري عليكم، حيث خالفتم نبيكم، والأول أوفق بقوله‏:‏ ‏{‏كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِى الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 74‏]‏‏.‏

‏{‏وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدةً‏}‏ أي‏:‏ آلات الإدراك والفهم، ليعرفوا بكل واحدة منها ما خلقتْ له، وما نيطت به معرفته، من فنون النعم، ويستدلوا بها شؤون منعمها، ويداوموا على شكرها، ويوحدوا خالقها،، ‏{‏فما أغنى عنهم سمعُهم‏}‏ حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل، ‏{‏ولا أبصارهم‏}‏ حيث لم يُبصروا ما نصب من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى ووجوب وجوده، ‏{‏ولا أفئدتهم‏}‏ حيث لم يتفكّروا بها في عظمة الله تعالى وأسباب معرفته، فما أغنت عنهم ‏{‏من شيء‏}‏ أي‏:‏ شيئاً من الإغناء‏.‏ و‏{‏من‏}‏ زائدة؛ للتأكيد، وقوله‏:‏ ‏{‏إِذ كانوا يجحدون بآيات الله‏}‏ ظرف لقوله‏:‏ ‏{‏فما أغنى‏}‏ جارٍ مجرى التعليل، لاستواء مؤدّي التعليل والظرف في قولك‏:‏ ضربته إذ أساء، أو‏:‏ لإساءته، لأنك إذا ضربته وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه، وكذلك الحال في «حيث» دون سائر الظروف غالباً، أي‏:‏ فما أغنت عنهم آلات الإدراك لأجل جحودهم بآيات الله‏.‏ ‏{‏وحاق‏}‏ أي‏:‏ نزل ‏{‏بهم ما كانوا به يستهزؤون‏}‏ من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء، ويقولون‏:‏ ‏{‏فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين‏}‏‏.‏

‏{‏ولقد أهلكنا ما حولَكم من القرى‏}‏ يا أهل مكة، كحِجر ثمود، وقرى لوط، والمراد‏:‏ أهل القرى، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وصرَّفنا الآياتِ‏}‏ كرّرناه، ‏{‏ولعلهم يرجعون‏}‏ أي‏:‏ كرّرنا عليهم الحجج وأنواع العِبر لعلهم يرجعون من الطغيان إلى الإيمان، فلم يرجعوا فأنزلنا عليه العذاب‏.‏

‏{‏فلولا نَصَرَهم الذين اتخذوا من دون الله قُرباناً آلهةً‏}‏ أي‏:‏ فهلاّ منعهم وخلصهم من العذاب الأصنام الذين اتخذوهم آلهة من دون الله، حال كونها متقرباً بها إلى الله، حيث كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ و‏{‏هَؤُلآءِ شُفَعَآؤُنَا عِندَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ ‏{‏بل ضلوا عنهم‏}‏ أي‏:‏ غابوا عن نصرتهم، ‏{‏وذلك إِفكهم وما كانوا يفترون‏}‏ الإشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم وضلالهم، أي‏:‏ وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذها آلهة، وثمرة شركهم، وفترائهم على الله الكذب‏.‏

وقرأ ابن عباس وابن الزبير‏:‏ ‏{‏أَفَكَهم‏}‏ أي‏:‏ صرفهم عن التوحيد‏.‏ وقُرئ‏:‏ بتشديد الفاء، للتكثير‏.‏

الإشارة‏:‏ التمكُّن من كثرة الحس لا يزيد إلا ضعفاً في المعنى، وبُعداً من الحق، ولذلك يقول الصوفية‏:‏ كل من زاد في الحس نقص في المعنى، وكل ما نقص في الحس زاد في المعنى، والمراد بالمعنى‏:‏ كشف أسرار الذات وأنوار الصفات، وما مكّن اللّهُ تعالى عبدَه من الحواس الخمس إلا ليستعملها فيما يقربه إليه، ويوصله إلى معرفته، فإذا صرفها في غير ذلك، عُوقب عليها‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏30‏)‏ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏31‏)‏ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «النفر» بالفتح‏:‏ الجماعة من ثلاثة إلى عشرة، وقيل‏:‏ إلى سبعة ولا يُقال نفر فيما زاد على عشرة، والرهط والقوم والعشيرة والعشر معناهم الجمع، ولا واحد لهم من لفظه، وهو للرجال دون النساء‏.‏ قاله في المصباح‏.‏ و‏{‏من الجن‏}‏ نعت للنفر، وكذا ‏{‏يستمعون‏}‏‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏إِذ صرفنا إِليك نفراً من الجن‏}‏ أي‏:‏ أملناهم إليك، وقبلنا بهم نحوك، وهم جن نصيبين، أو جن نينوى، قال في القاموس‏:‏ «نِينوى» بكسر أوله، موضع بالكوفة، وقرية بالموصل ليونس عليه السلام‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏يستمعون القرآن‏}‏ منه عليه السلام ‏{‏فلما حضروه‏}‏ أي‏:‏ الرسول صلى الله عليه وسلم، أو القرآن، أي‏:‏ كانوا منه حيث تمّ وفرغ من تلاوته، ‏{‏وَلَّوا إِلى قومهم منذرين‏}‏ مقدّرين إنذارهم عند رجوعهم إليهم‏.‏

رُوي‏:‏ أن الجنَّ كانت تسترق السمع، فلما حُرست السماء، ورُموا بالشُهب، قالوا‏:‏ ماهذا إلا لأمر حديث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، لتعرفوا ما هذا، فنهض سبعة أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى، منهم‏:‏ «زوبعة» فمضوا نحو تهامة، ثم انتهوا إلى وادي نخلة، فوافقوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي صلاة الفجر، فستمعوا القرآن، وذلك عند منصرفه من الطائف، حين ذهب يدعوهم إلى الله، فكذّبوه، وردُّوا عليه، وأغروا به سفاءهم، فمضى على وجهه، حتى وصل إلى نخل، فصلّى بها الغداة، فوافاه نفر الجن يصلي، فاستمعوا لقراءته، ولم يشعُر بهم، فأخبره الله تعالى باستماعهم‏.‏

وقيل‏:‏ أمره اللّهُ تعالى أن يُنذر الجن، ويقرأ عليهم، فصرف الله إليه نفراً منهم، وجمعهم له، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إني أُمرت أن أقرأ على الجن، فمَن يتبعني‏؟‏» قالها ثلاثاً، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود، قال‏:‏ فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة، في شعب الجحون، فخطّ خطّاً، فقال‏:‏ «لا تخرج عنه حتى أعود إليك»، ثم افتتح القرآن، وسمعت لغطاً شديداً، حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي، وغشيته أسوِدة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم تتقطع كقطع الحساب، ذاهبين، ففرغ صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فقال‏:‏ «أنمتَ‏؟‏» فقلت‏:‏ لا والله، ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول‏:‏ اجلسوا، فقال‏:‏ لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هل رأيت شيئاً‏؟‏» قلت‏:‏ نعم، رجالاً سوداً، في ثياب بيض، قال‏:‏ «أولئك جن نصيبين» وكانوا اثني عشر ألفاً، والسورة التي قرأ عليهم‏:‏ ‏{‏اقرأ باسم ربك‏}‏‏.‏

فلمَّا رجعوا إلى قومهم ‏{‏قالوا يا قومنا إِنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى‏}‏ قيل‏:‏ قالوا ذلك لأنهم كاناو على اليهودية، وعن ابن عباس‏:‏ إن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام وهو بعيد‏.‏ حال كون الكتاب ‏{‏مُصدّقاً لما بين يديه يهدي إِلى الحق‏}‏ من العقائد الصحيحة، أو إلى الله، ‏{‏وإِلى صراطٍ مستقيم‏}‏ يُوصل إلى الله، وهو الشرائع والأعمال الصالحة‏.‏

‏{‏يا قومنا أجيبوا دَاعِيَ الله‏}‏ وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وآمِنوا به‏}‏ أي‏:‏ بالرسول أو القرآن، وصفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعدما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم؛ لتلازمهما، دعوهم إلى ذلك بعد بيان حقيقته واستقامته، ترغيباً في الإجابة، ثم أكدوه بقولهم‏:‏ ‏{‏يغفر لكم من ذنوبكم‏}‏ أي‏:‏ بعض ذنوبكم، وهو ما كان في حق خالصٍ لله تعالى، فإنّ حقوق العباد لا تُغفر بالإيمان، وقيل‏:‏ تغفر‏.‏ ‏{‏ويُجركمْ من عذابٍ أليم‏}‏ موجع‏.‏

واختلف في مؤمني الجن، هل يُثابون على الطاعون، ويدخلون الجنة، أو يُجارون من النار فقط‏؟‏ قال الفخر‏:‏ والصحيح أنهم في حكم بني آدم، يستحقون الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، وهو قول مالك، وابن أبي ليلى، وقال الضحاك‏:‏ يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون‏.‏ ه‏.‏ ويؤده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا‏}‏ كما تقدّم في الأنعام‏.‏

‏{‏ومَن لا يُجِبْ داعيَ الله فليس بمعجزٍ في الأرض‏}‏ أي‏:‏ لا ينجي منه مهرب، وإظهار «داعي الله» من غير اكتفاء بضميره، للمبالغة في الإيجاب، بزيادة المهابة والتقرير وتربيته، وإدخال الروعة‏.‏ وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض؛ لتوسيع الدائرة، أي‏:‏ فليس بمعجز له تعالى وإن هرب في أقطار الأرض ودخل في أعمالقها‏.‏ ‏{‏وليس له من دونه أولياءُ‏}‏ ينصرونه من عذاب الله، وهو بيان لاستحالة نجاته بواسطة، إثر بيان استحالة نجاته بنفسه، وجمع «الأولياء» مبالغة، إذا كان لا ينفعه أولياء، فأولى واحد‏.‏ ‏{‏أولئك‏}‏ الموصوفون بعدم إجابة داعي الله ‏{‏في ضلال مبين‏}‏ أي‏:‏ ظاهر‏:‏ بحيث لا تخفى ضلالته على أحد، حيث أعرضوا عن إجابة مَن هذا شأنه، وجمع الإشارة باعتبار معنى «من»، وأفرادَ أولاً باعتبار لفظها‏.‏

الإشارة‏:‏ قد استعملت الجن الأدب بين يديه صلى الله عليه وسلم حيث قالوا‏:‏ أنصتوا، فالجلوس مع الأكابر يحتاج إلى أدب كبير، كالصمت، والوقار، والهيبة، والخضوع، كما كانت حالة الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم أنصتوا كأنما على رؤوسهم الطير‏.‏ قال الشيخ أبو الحسن رضي لله عنه‏:‏ «إذا جالست الكبراء فدع ما تعرف إلى ما لا تعرف، لتفوز بالسر المكنون» فإذا انقضى مجلس التذكير رجع كل واحد منذراً وداعياً إلى الله كلَّ مَن لقيه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه‏:‏ «ليبلغ الشاهد الغائب» فمَن بلغه ذلك واستجاب ربح وغنم، ومَن لا يجب داعي الله خاب وخسر، والاستجابة أقسام، قال القشيري‏:‏ فمستجيبٌ بنفسه، ومستجيبٌ بقلبه، ومستجيبٌ بروحه، ومستجيبٌ بسرِّه، ومَن توقف عند دعاء الداعي إليه، ولم يُبادر إلى الاستجابة هُجِرَ فيما كان يُخَاطب به‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ المستجيب بنفسه هو المستجيب بالقيام بوظائف الإسلام، والمستجيب بقلبه القائم بوظائف الإيمان، والمستجيب بروحه القائم بوظائف الإحسان، والمستجيب بسره هو المتمكن من دوام الشهود والعيان، وقول‏:‏ هجر فيما يُخاطب به، أي‏:‏ كان يُخاطب بملاحظة الإحسان، فإذا لم يبادر قِيد بسلاسل الامتحان‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ولم يَعْيَ‏}‏ حال من فاعل «خلق»، يُقال‏:‏ عَي، كرضَى، وَعِيَ بالإدغام، وهو أكثر‏.‏ قاله في الصحاح‏.‏ وفي القاموس‏:‏ عَيَّ بالأمر وعَيِيَ كرَضِيَى، وتَعايا واسْتَعيا وتَعَيَّا‏:‏ لم يهتدِ لوجه مُراده، أو عَجَزَ عنه ولم يُطِقْ إحْكَامه‏.‏ ه‏.‏ و‏{‏بقادر‏}‏ خبر «أن»، ودخلت الباء لاشتمال النفي الذي في صدر الآية على «أنّ» وما في حيّزها، قال الزجاج‏:‏ لو قلت‏:‏ ما ظنت أنَّ زيداً بقائم، جاز‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوا‏}‏ أي‏:‏ ألم يتكّفروا ولم يعلموا علماً جازماً ‏{‏أنَّ الله الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ ابتداء من غير مثال يحتويه، ولا قانون يحتذيه، ‏{‏و‏}‏ الحال أنه ‏{‏لم يَعْيَ بخلقهن‏}‏ أي‏:‏ لم يتعب ولم ينصب بذلك أصلاً، ولم يعجز عنه، أليس مَن فعل ذلك ‏{‏بقادرٍ على أن يحيي الموتى بلى‏}‏ جواب النفي، أي‏:‏ بلى هو قادر على ذلك، ‏{‏إِنه على كل شيء قديرٌ‏}‏ تقرير للقدرة على وجه عام، ليكون كالبرهان على المقصود‏.‏

ثم ذكر عقاب مَن أنكر البعث المبرهن عليه، فقال‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر ‏{‏يوم يُعرض الذين كفروا على النار‏}‏ فيقال لهم‏:‏ ‏{‏أليس هذا بالحق‏}‏ فالإشارة إلى ما يُشاهدونه من فظيع العذاب، وفيه تهكُّم بهم، وتوبيخ لهم، على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده، ونفيه بقوله‏:‏ «وما نحن بمعذبين»، ‏{‏قالوا‏}‏ في جواب الملائكة‏:‏ ‏{‏بلى وربَّنا‏}‏ إنه لحق، أكدوا جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقيقتهما كما في الدنيا، وأنَّى لهم ذلك‏؟‏ ‏{‏قال‏}‏ تعالى لهم‏:‏ ‏{‏فذُوقوا العذابَ بما كنتم تكفرون‏}‏ بها في الدنيا، ومعنى الأمر‏:‏ الإهانة بهم والتوبيخ لهم، نعوذ بالله من موارد الهوان‏.‏

الإشارة‏:‏ تربية اليقين تطلب في أمرين، حتى يكونا كرأي العين‏:‏ وجود الحق أو شهوده، وإيتان الساعة وقربها، حتى تكون نُصب العين، وتقدّم حديث حارثة شاهداً على إيمانه، حيث قال‏:‏ «وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏ متعلق بتستعجل، وأما تعليقه ببلاغ فضعيف، لا يليق بإعجاز التنزيل، خلافاً لوقف الهبطي، ‏{‏وبلاغ‏}‏ خبر عن مضمر، أي‏:‏ هذا بلاغ‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فاصبر‏}‏ يا محمد على ما يُصيبك من جهة الكفرة ‏{‏كما صبر أُولوا العزم‏}‏ أي‏:‏ الثبات والحزم ‏{‏من الرسل‏}‏ فإنك مِن جملتهم، بل من أكملهم وأفضلهم، و«من» للتبعيض، واختلف في تعيينهم، فقيل‏:‏ هم المذكورون في الأحزاب ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيمَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏ وهم أهل الشرائع، الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمُّل مشاقها، وسياسة مَن تمسّك بها، ومعاداة الطاعنين فيها‏.‏ وقيل‏:‏ هم الصابرون على بلاء الله تعالى، كنوح صَبَر على إذاية قومه، كانوا يضربونه حتى يُغشى عليه، وإبراهيم صبر على النار، وذَبْحِِ ولده، ومفارقة وطنه، وترك ولده ببلد خالية من العمران، ويعقوب على فقد ولده، وذهَاب بصره، ويوسف على الجُب والسجن، وأيوب على الضُر، وموسى قال له قومه‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 61، 62‏]‏ وعلى مكابدة التيه مع قومه، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة‏.‏

وقيل‏:‏ هم اثنا عشر نبياً، أُرسلوا إلى بني إسرائيل، فعصوهم، فأوحى الله إلى الأنبياء‏:‏ إني مرسل عذابي على عصاة بني إسرائيل، فشقَّ عليهم، فأوحى الله إليهم‏:‏ أن اختاروا لأنفسكم، إن شئتم أنزلتُ بكم العذاب، وأنجيت بني إسرائيل، وإن شئتم أنجيتكم وأنزلت ببني إسرائيل، فتشاوروا بينهم، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب ويُنجي بني إسرائيل، فسلّط عليهم ملوك الأرض، فمنهم مَن نُشر بالمناشير، ومنهم مَن سُلخ جلدة رأسه ووجهه، ومنهم مَن رُفع على الخشب، ومنهم مَن أُحرق بالنار‏.‏ نسأل الله العافية، فإنهم أقوياء ونحن ضعفاء‏.‏

وقيل‏:‏ «من» للتبيين، كقولك‏:‏ اشتريت ثياباً من الخز، فكلهم أولو العزم، وقيل‏:‏ إلا يونس، لقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 48‏]‏ وآدم لقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 115‏]‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تستعجلْ لهم‏}‏ أي‏:‏ لكفار مكة نزول العذاب، فإنه نازل بهم، ‏{‏كأنهم يوم يَرَوْن ما يُوعدون‏}‏ من العذاب ‏{‏لم يلبثوا‏}‏ في الدنيا ‏{‏إِلا ساعةً‏}‏ يسيرة ‏{‏من نهارٍ‏}‏ لما يُشاهدونه من شدة العذاب وطول مدته‏.‏ وقال الثعالبي‏:‏ وإذا علمت أيها الأخ أن الدنيا أضغاث أحلام، كان من الحزم اشتغالك الآن بتحصيل الزاد للمعاد، وحفظ الحواس، ومراعاة الأنفاس، ومراقبة مولاك، فاتخذه صاحباً، ودعْ الناس جانباً، ثم نقل عن الغزالي ما يهيج النفس إلى النهوض إلى الله، والفرار مما سواه، فانظره‏.‏

هذا ‏{‏بلاغٌ‏}‏ أي‏:‏ هذا الذي وُعظتم به كفاية في الموعظة، أو تبليغ من الرسول، أو مني إليك، ومنك إلى العالمين‏.‏

‏{‏فهلْ يُهلك إِلا القوم الفاسقون‏}‏ أي‏:‏ ما يُهلك إلا الخارجون عن هذا الاتعاظ، أو عن هذه المواعظ، أو عن الطاعة، أو‏:‏ فلا يهلك مع هذه المواعظ البالغة، والأدلة القاطعة إلا مَن هلك عن بينة، أو‏:‏ فلا يهلك مع رحمة الله وتفضُّله إلا الهالكون، ونظير ما ختم به هنا ما ختم به سورة الأنبياء‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى هَذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 106‏]‏ الآية‏.‏

فائدة‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ إذا عسر على المرأة ولدها، فليكتب هاتين الآيتين الكريمتين في صحيفة، ثم تغسل وجهها منها، وتُسقى منها‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، العظيم الحليم، سبحان الله رب السموات والأرض، ورب العرش العظيم، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها، ‏{‏كأنهم يوم يرون ما يُوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار‏}‏ صدق الله العظيم‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ أولو العزم من الأولياء هم أولو الجد والتشمير، قد خلّصهم البلاء وشحّرهم، فهم جلاليون الظاهر، جماليون الباطن، قد أسّسوا منار الطريق، وأظهروا معالم التحقيق، قاسوا شدائد المجاهدة، وأفضوا إلى دوام المشاهدة، عالجوا سياسة الخلق، حتى هدى الله على أيديهم الجم الغفير، فهم خلفاء الرسل في تجديد الشرائع، وإحياء الدين، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه‏.‏ فيُقال لكل وليّ من أولي العزم‏:‏ فاصبر كما صبر أولو العزم من الأولياء قبلك‏.‏

قال القشيري‏:‏ والصبرُ هو الوقوفُ لحكم الله تعالى، والثبات من غير بَثّ الاستكراه‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ من غير إظهار الشكوى والتكرُّه‏.‏ قلت‏:‏ وأعظم مواطن الصبر عند ورود الفاقات، وتوالي الأزمات، وصيانة الوجه عن ذلك المخلوقات، ولله در القائل‏:‏

اِرض بِأدْنَى الْعَيْشِ وَاشْكر عَلَيْهِ *** شُكْرَ مَن الْقلُّ كَثيرٌ لَدَيْهِ

وجَانِب الْحرص الَّذِي لَمْ يَزَل *** يَحُطُّ قَدْرَ الْمتَراقِي إِلَيهِ

وحَامِ عَنْ عِرْضِكَ وَاسْتَبقهِ *** كَمَا يُحامي اللَّيْثُ عَنْ لُبْدَتَيْهِ

وَاصْبِرْ علَى ما نَابَ مِن نوبٍ *** صَبْرَ أُولِي الْعَزْمِ، وَاغْمِضْ عَلَيْهِ

ولبدتي الأسد‏:‏ جانبا كتفيْه‏.‏

ويُقال لأُولي العزم، حين يُؤذون من جهة الخلق‏:‏ ‏{‏ولا تستعجل لهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كأنهم يوم يرون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال القشيري‏:‏ مُدةُ الخلق من مبتدأ خلقتهم إلى مُنتهى آجالهم، بالإضافة إلى الأزلية، كلحظةٍ، بل هي أقلُّ، إذ الأول لا ابتداء له ولا انتهاء، وأيّ خَطَرٍ لما حصل في لحظةٍ‏.‏‏.‏ خيراً كان أو شرّاً‏؟‏ ه‏.‏

قال الورتجبي، ثم بيَّن أن عند معاينة سطوات القهريات، لا يهلك فيها إلا الخارجون من نعوت استعداد معرفتي، حين يحتجبون بظلمات نعوتهم بقوله‏:‏ ‏{‏فهل يهلك إلا القوم الفاسقون‏}‏ الخارجون بالدعاوى الباطلة‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏